الكتاب وسادة: طقس يعيد السكينة للعقل

الكتاب وسادة: طقس يعيد السكينة للعقل

ما إن ينقضي النهار حتى تحمل العقول معها بقايا التفاصيل الصغيرة والكبيرة: اجتماع لم يكتمل، رسالة لم يُرَد عليها، قرار مؤجَّل. تتزاحم الأحداث في الذاكرة كما لو كانت أوراقًا متناثرة على طاولة مزدحمة. ومع حلول الليل، يظهر سؤال خفي: كيف يمكن تهدئة هذا الصخب الداخلي ليفسح المجال لنوم صافٍ؟ هنا يتقدّم فعل يبدو بسيطًا لكنه ذو أثر عميق: القراءة قبل النوم.

الكتب في هذه اللحظات لا تؤدي دور وسيلة للمعرفة فقط، بل تتحول إلى طقس ليلي يتكرر لدى كثيرين. عندما تُفتح الصفحات في هدوء الغرفة، يبدأ الإيقاع الداخلي للعقل بالتغيّر. الكلمات المكتوبة لا تقتحم الذهن كما تفعل الشاشات، بل تتسلل ببطء، مكوِّنة إحساسًا بالسكينة. وكلما مرّت العين على السطور، أخذ التوتر يتراجع قليلًا، كأن الحروف تحمل معها مفتاحًا لإغلاق أبواب القلق التي تُثقل النوم.

القراءة كجسر بين النهار والليل

من الناحية النفسية، تُظهر الدراسات أن الانغماس في القراءة يبطئ من نشاط الدماغ المرتبط بالتفكير القلِق والمتسارع. إنها لحظة انسحاب من دائرة القلق المستقبلي، حيث يتناقص حضور الأسئلة العمليّة عن الغد، لتحل مكانها قصص أو أفكار أو معارف جديدة. بذلك، تُبدَّل بوصلة الانتباه من صخب “ماذا سيحدث” إلى هدوء “ما يُروى الآن”.

واللافت أن هذا السلوك البسيط يصبح مع الوقت إشارة بيولوجية متكررة، يشبه إشعال مصباح صغير يوحي للجسد بأن الاستعداد للنوم قد بدأ. على خلاف الأضواء الصادرة من الهواتف والأجهزة الإلكترونية، والتي تبعث رسائل مُشوَّشة للدماغ تُبقيه في حالة يقظة، فإن القراءة الورقية أو عبر أجهزة مُهيأة لاستخدام ليلي تنسجم مع حاجة الجسد الطبيعية إلى الانطفاء التدريجي.

السكينة بين السطور

الاعتبار الأكثر عمقًا يكمن في الأثر العاطفي. القراءة تُشعر من يمارسها بأن العالم قادر على الانتظار قليلًا. فالصفحات، بما تحمله من عوالم ومعانٍ، تمثل استراحة ذهنية من ضغط اليوم. إنها مسافة آمنة بين متطلبات النهار وسكون الليل، تُعيد التوازن إلى النفس وتمنحها حقّ الراحة.

ومع تراكم الليالي، تتحول العادة إلى جزء من الهوية اليومية. ليس مجرد نشاط إضافي، بل روتين خفي ينسج علاقة خاصة بين المرء ونومه. كأن الحروف نفسها تصبح جسرًا يعبر به الإنسان من القلق إلى الطمأنينة، ومن الانشغال إلى الصفاء.

الكتب إذن ليست فقط مصدرًا لتوسيع المدارك، بل أيضًا أداة عميقة لتجديد الطاقة النفسية. وبين طقس القراءة الأخير وصوت إغلاق الغلاف، يتشكل ذلك الفراغ الجميل الذي يسبق غفوة هادئة؛ فراغ يحمل في داخله وعدًا بنوم أجود وليلة أكثر سكينة.

© 2025 — مقال في فنون العادات اليومية